حبيبتي يريدون دفنها

حبيبتي يريدون دفنها




الدنيا قاتمةٌ، لالونَ فيها غيرُ لون الغروب، والأمنيات كسيرةٌ ؛عاجزةٌ؛ تُحاول

الاتكاءَ على عصاً مهترئةٍ تسمَّى الأحلام، لكنّها لاتلبث أن تسقط ، والشمس

منكسفةٌ، والقمرلا يصيبه الخسوف!! لأنه لايحاول الظهورَ أبدا، والمشاعركاسدةٌ

، والأحاسيس باردةٌ، والهوى !! أين الهوى؟! فرّمن القلوب المتعبة.

كان هذا حالي في أول شبابي، في قريتي البائسة الفقيرة، وفي

أواخرالثمانينات الميلادية؛ أبحث عن حبيبة، وأفتِّـش عن عشيقة، لكنَّ نساء

الأرض جميعا لايشفين الغليل، ولا يروين الظمأ؛ وجوهٌ نافرةٌ؛وأجسادٌ غير

متلائمة، والنفوس لاتعبِّـر إلا بفحيح الأفاعي اللاهب؛ آمالهن خواء، وأهدافهن

هراء،وحديثُهن في لاشيء ؛ تظن الواحدةَ تسمو؛ وإذا هي تهفو في مزالق

الانحطاط، فتَّـشت حتى أتعبني التفتيش، ودوَّرت حتى أصابني الدوار، وبينما

كنت أرقبُ حالي المريرة، وأقاسي آلامي الكبيرة، رأيت في أطراف القرية

شمساً ليست الشمسُ التي تصبحُ كلَّ يوم مثـلَها، براءةٌ ووضاءةٌ، وطهارةُ نفس

تنبعث ممزوجةً بروائح الليمون، ووجهٌ عوَّضني عن القمر الذي استمرأ الغياب!!

،وجسدٌ نابهٌ ممشوق؛ مختمرٌ بعبق الزيتون، فتيَّـةٌ ذات وجنتين حمراوين ريفيتين،

وعينين عسليتين ناعستين، ورغم هذه الأوصاف التي تبدوهادئةً إلا أنني كدت

أتسمَّر مدهوشاً أمام جاذبيَّتها المفرطة، وعنفوانها المتزايد المتَّـقد،الصغارُ

تعلقوا بفستانها الريفي المزرْكش الضافي؛ والكبارُ خلعوا أغطية رؤوسهم إجلالا

لها، والنساءُ تسير في ركابها في خضوعٍ، حينها- فقط- عرفت أن هذه الخارقةَ

هي التي أبحث عنها!! وفورا قررتُ أن تكون حبيبتي!!

حبيبتي نفورٌ من كلِّ شيءٍ،وأولُ ما نفرت منه هو تسلطُ الرجال؛ أخذتْ تقاوم

كل إغراءاتِ الرجال ،صرختْ: "أنا ضدُ التملك البغيض،أنا لاأعطي نفسي إلا لمن

يستحقني!!"كانت شجاعةً إلى درجة أنْ وصفها أهل القرية بالهياج، والتمرد،

وكانت ثابتة على مبادئها حتى نعتوها بالتصلب والعناد،لا تعبأُ بشيء إلا

بالحقِّ، ولاتهتمُّ لأحد، تدافع عن حقها حتى لو رَجَمَتْ من يخطئُ عليها بالحجارة؛

ولاتخجل من إعلان رغباتها، وأُولاها أن لايتمَلَّـكها إلاَّ منْ يستحقها، وآخرُها أن

تزيل طبقة الاستبدادين الذين لايقدِّرونها حق قدرها، صادقة وواثقة، صلبة

المراس، يحبُّها الأغلبية!!!

لكن بعضَ أهل القرية البغيضين صاروا يحوكون لها الدسائس، رأوها تعبِّر عن

رأيها في أوضاعها، فوصموها بأنها منتفضةٌ هائجةٌ لاتعرف التحضُّر؛

وشاهدوها تذبُّ عن عرضها ؛فتغامزوا بينهم أنها عنيفةٌ ، دمويةٌ ، تكاد تقتلٌ من

حولها؛ سمعوها تهتف للحرية والحق فادَّعوا أنها متعجرفةٌ تظن الناس يسكتون

لها!!

أعجبتني حتى الثمالة، وعشقـْتُها حتى الهوس، لم أتوقعْ يوما أن أرى مثلَها

بين مرائي الزيف، والكذب، والخداع؛ لكنني كنتُ أخشى عليها أن تزولَ من

على وجه هذه الأرض، فأهل القرية لا يريدون مثل حبيبتي، ولا يفرحون إلا بمثل

اللواتي حدَّثـْتـكمْ عنهنَّ من قبلُ.

آه، لقد أصبح القومُ يأتمرون بها ليقتلوها؛ وهاهي الأفاعي البشريةُ تجمَّعت من

كل أطراف القرية تؤلِّف القصص الكاذبة ، وتنسج الأحابيل الشيطانية القاتلة

لتشويه صورة الحبيبة؛ طعنوها في شرفها، كذَّبوا مصداقيتها، وصموها بكل

أنواع العار، ضايقوها؛ بل حاربوها ؛ أوغروا الصدور ضدها، شوَّشوا العقول

تجاهها ، ومع هذا فحبيبتي لا تزال تقاوم، وتقاوم، وتقاوم!!!

وفي يومٍ شاحب ؛ نجحتْ محاولاتُ الأفاعي، فحوَّطوها ،وتعاونوا عليها ،

ضربوها حتى أثخنوها بالجراح، فرقوا أحبابها؛ وأنا أولهم، تركوها ورائحةُ

الليمون تفوح في الدماء الزكية، وعبقُ الزيتون يتردَّد في الآهات المكلومة؛ ثم

أدخلوها_ في شماتة فرحة_حيث يريدون؛ لقد دفنوها في أحد القبور المهجورة

؛ وهم إذ ذاك يتغامزون!!!

عادت لي الرؤى التعيسة، وانكسفت الشمس كأنها لم تشرق من قبلُ، وعاودني

الحزن، لكنَّ اليأس قصَّر عن بلوغ قلبي ، فأنا مازلتُ مؤمنا بقدرات حبيبتي

الخارقة، أراها تنتفضُ، وتزيحُ عنها غبار القبر المهجور؛ لكنَّني لاأعلم متى

يكون ذلك؟! وأخذتُ أقفُ بعيدا أرقبُ القبرَ كلَّ يومٍ لعلها تفيقُ من رقدتها؛ لم

يصبني الإحباطُ، ولم تتعبني الأيامُ في انتظار أملي ؛ وفي يومٍ ؛ رأيت ترابَ

القبر يتشقَّـقُ، وطينَه اللازبَ يتمزقُ،وإذا بحبيبتي تحركُ أطرافَها؛وتنبعثُ من

خلال التراب، وإذاهي تنتفضُ بشدةٍ، وتهتزُ بعنفٍ؛ وإذا هي هي حبيبتي كما

عهدتُها؛ حمراءُ الوجنتين، عسليةُ العينين، رائحتُها الليمونية تفتِّـق شراييني،

وعبقُها الزيتوني يكاد يصيبني بالإغماءة!!

عادت حبيبتي كأنَّها لم تمتْ؛ ملأتْ القريةَ روحاً زكية، أخذتْ تصهل بالكلمات،

وتعلن الرأي، وكلُّ ذلك في قوة، ووضوح، ومقاومة، وصارت الأفاعي تفحُّ من

جديد:" كيف لم تمتْ هذه الشرسةُ؟! يا لها من مخلوق عجيب!!"

وفي ظلِّ عنفوانِها المتزايد وإعجابي به، وفي غمرة حماسها الكبيروهيامي

به، كان اللفيفُ من الأفاعي يأتمرن بها ليقتلوها من جديد، وهاهم يجتمعون

أكبر من ذي قبل، وهاهم يخططون أشنع من ذي قبل، وهاهي حبيبتي قد

تساق بين لحظة وأخرى إلى قبرها المهجور!!!!!